17/10/2022 - 14:04

عندما تخذلنا اللغة | ترجمة

عندما تخذلنا اللغة | ترجمة

الرئيس الفرنسيّ إيمانيول ماكرون مع الرئيس بول بيا، رئيس الكاميرون.

 

العنوان الأصليّ: When Language Fails Us.

المصدر: Mondoweiss.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة. 

 


 

أحيانًا أتساءل إذا ما كنت أفهم اللغة الفرنسيّة حقًّا. أطلقت إسرائيل هجومًا جوّيًّا على غزّة ’إجراءً احترازيًّا‘ أدّى إلى قتل 46 شخصًا، بينهم 16 طفلًا. احترازيًّا؟ حقًّا؟ لأسابيع لم يكن ثمّة هجمات في إسرائيل، ولم تُطْلَق صواريخ باتّجاه مناطقها. في الوقت نفسه، ضاعفت إسرائيل من اقتحاماتها للمناطق الفلسطينيّة المحتلّة، آخرها كان اقتحام مخيّم جنين، وقتل طفل في السادسة عشرة من عمره، واعتقال بسّام السعدي، ناشط فلسطينيّ. البيان الرسميّ من «وزارة الشؤون الخارجيّة الفرنسيّة» لم يشجب قصف المدنيّين بالطائرات، لكنّه شجب "إطلاق الصواريخ تجاه المناطق الإسرائيليّة"، وهي الصواريخ ذاتها الّتي أُطْلِقت ردًّا على الهجوم الإسرائيليّ. وأكّد بيان الوزارة التزام فرنسا "غير المشروط بأمن إسرائيل". أمن إسرائيل؟ حقًّا؟ خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، وبتواطؤ من مصر والقوى الغربيّة، أبقت إسرائيل على أكثر من مليونَي إنسان تحت حصار صارم، وصل حدّ قياس حصص الطعام المخصّصة لكلّ شخص منهم. غزّة سجن مفتوح، والقنّاصة الإسرائيليّون يطلقون النار دون تحذير تجاه كلّ مَنْ يبدو أنّه يقترب من قضبان هذا السجن، والطائرات الإسرائيليّة المسيّرة لا تتوقّف عن التحليق في سماء غزّة. دخل الجيش الإسرائيليّ إلى القفص خمس مرّات، مخلّفًا وراءه القتل والدمار، لكنّ أمن إسرائيل في خطر؟

 

أن تفسّر يعني أن تبرّر 

لست وحدي مَنْ يواجه مشكلة في اللغة. فيمَ فكّر مضيفو الرئيس الفرنسيّ إيمانيول ماكرون في الكاميرون، حين وبّخهم ووصفهم بالمنافقين؛ لأنّهم، على عكس القادة الغربيّين، لا يعرفون "أيّ اسم يطلقونه على حرب، هي حرب حقيقيّة بالفعل؟ كما أنّهم لا يقولون صراحة مَنْ بدأ هذه الحرب". لم يكن ماكرون يتحدّث عن غزّة، بالطبع، ولكن عن أوكرانيا. لا شكّ في أنّهم كانوا يفكّرون أنّ الرئيس الفرنسيّ سيحسن صنعًا لو بدأ بتنظيف بيته الداخليّ قبل إلقاء المواعظ.

عندما قرأت الخبر الّذي يقول إنّ نانسي بيلوسي، الّتي وصلت إلى تايوان في عرض غير مسبوق للقوّة البحريّة والجوّيّة، أعلنت حال وصولها أنّها أتت رسولة للسلام، سألت نفسي ما إذا كنت قد بدأت أعاني من مشكلة في فهم اللغة الإنجليزيّة أيضًا.

التاريخ يعيد نفسه. كما كتب غوته في «فاوست»: "هنا كذلك يحدث ما حدث هنا قبل وقت طويل". في بداية القرن العشرين، استنكر كارل كراوس تحريف اللغة؛ ففي ذلك التحريف رأى كراوس أُسُس الحروب الّتي غطّت العالم بالدماء، وأدّت إلى انحدار أوروبّا. الكلمات ليست إلّا الطبول الّتي ترافق الهجوم، وهدفها ليس إلّا التغطية على أصوات الطلقات والانفجارات. ما عادت الكلمات تعني شيئًا، والناس لم يعودوا يحاولون إقناع بعضهم بعضًا، ولا حاجة إلى القول إنّهم لا يحاولون فَهْمَ بعضهم بعضًا. أقتبس هنا من كلمات رئيس وزرائنا السابق، مانيول فالس، الخالدة: "أن تفسّر يعني أن تبرّر".

الكلمات ليست إلّا إشارات تدلّ على المقت أو الاستحسان؛ إشارات ضوئيّة يستعملها المرء ليدلّل على إمكانيّات الحركة في أيّ اتّجاه من عدمها. الفلسطينيّون - بحكم التعريف - إرهابيّون، من أكبرهم إلى أصغرهم. هذا لا يعني أنّ أيّ واحد منهم قد اقترف ذنبًا ما بالضرورة، لكنّه يعني أنّ الأصل هو ألّا تثق بهم، والأفضل أن يظلّوا محفوظين خلف باب ومفتاح.

ودولة إسرائيل - بحكم التعريف – ’ديمقراطيّة‘؛ أي أنّها لا يمكن أن تكون نظام أبارتهايد، حتّى لو كان قانونها الأساسيّ يقول صراحة إنّ حقّ تقرير المصير فيها حقّ يتمتّع به اليهود فقط دون غيرهم. وكلّ مَنْ يجد في نفسه غضاضة من ذلك - مثل المشرّعين الفرنسيّين الّذين أعدّوا مشروع قانون لإدانة الأبارتهايد الإسرائيليّ - هو - بحكم التعريف – ’معادٍ للساميّة‘، كما تجرّأ وألمح وزير العدل الفرنسيّ، الغارق في تضارب المصالح حتّى أذنيه.

 

موت الكلمات

وقد يكون لدى إسرائيل أسلحة نوويّة، وبرامج تجسّس، والدعم غير المشروط من الإمبراطوريّة الوحيدة المتبقّية في العالم، لكنّها على الرغم من ذلك كلّه ’مهدّدة‘، وكأنّ غاراتها الجوّيّة ضدّ شعب لا يمتلك للدفاع عن نفسه غير البنادق والحجارة، أساسيّة وضروريّة من أجل بقائها ونجاتها.

هذا النظام المحكم والشديد الدقّة، قد يبدو مضحكًا لولا أنّه يُسْتَعْمَل من أجل تبرير الاعتداءات الّتي تزداد عنفًا يومًا بعد يوم، تجاه ملايين البشر الّذين يزدادون بؤسًا يومًا بعد يوم؛ من أجل دوافع تزداد سخافة يومًا بعد يوم: يبدو أنّ الحكومة الإسرائيليّة أرسلت طائراتها لقصف غزّة؛ من أجل الاستعداد للانتخابات الإسرائيليّة القادمة، الّتي يريد كلّ طرف فيها أن يثبت صلابته في التعامل مع الفلسطينيّين. هل يموت أطفال غزّة حتّى يدلي الإسرائيليّون بأصواتهم في الاتّجاه الصحيح؟

فقدان المعنى، موت الكلمات إذا أردتم تسميته، يعني حرب الكلّ ضدّ الكلّ. كما يقول مثل قانونيّ قديم: "الثيران تربطهم من قرونهم، والبشر تربطهم من كلماتهم". إذا ما حرمنا البشر من كلماتهم، لا يبقى لديهم غير القوّة. استعادة الكلمات لمعانيها، والعمل على ذلك، تعني التقدّم باتّجاه تحقيق الثنائيّ الّذي لا مثيل له: السلام، والعدل. هذا تحديدًا ما يجعل النضال من أجل فلسطين مهمًّا إلى هذا الحدّ: لا يتعلّق الأمر بمصير ملايين من الناس الّذين يسكنون فلسطين، مسلمين ومسيحيّين ويهودًا فحسب، بل يتعلّق باسترجاع الكلمات المهمّة معانيها الحقيقيّة - الإرهاب، الديمقراطيّة، الاستعمار، معاداة الساميّة - وكلّها كلمات نستخدمها في سياقات أخرى غير فلسطين، في سياقات أقرب إلى أوطاننا.

في هذه اللحظة، تكمن في الأولويّة هنا: حصار غزّة يجب أن يتوقّف، واستمرار بناء المستوطنات في فلسطين يجب أن يتوقّف. ما يحدث في أوكرانيا يُظهر بوضوح أنّ باستطاعة أوروبّا أن تتصرّف. وضع «الاتّحاد الأوروبّيّ» عقوبات على روسيا بسبب اعتداء استمرّ ستّة شهور؛ اعتداء يمكن أن يتحوّل إلى احتلال وضمّ، فلماذا لا تعاقب أوروبّا إسرائيل على استعمار مستمرّ منذ أكثر من 55 عامًا؟ الجريمة لا تختفي مع مرور الوقت، بل إنّها على العكس، تتجذّر أكثر في الأرض حتّى تصبح جذورها أقسى وأصعب على الاستئصال، وتصبح بحاجة إلى قوّة أعظم كثيرًا من أجل التصدّي لها ومعالجتها.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

 

التعليقات